استخدمت قوات الحكومة السورية ما يسمى “ميليشيا الدفاع الوطني” كواجهة للتغطية على الجرائم التي ارتكبتها بحق الشعب السوري، وارتبط اسم هذه الميليشيا بالمجازر وعمليات التعفيش، فمن هي وكيف تشكلت وكيف تستخدمها حكومة دمشق؟
تعود فكرة تشكيل ميليشيا الدفاع الوطني، إلى زمن اندلاع انتفاضة قامشلو في 12 آذار عام 2004، عندما بدأ النظام البعثي بتنظيم البعثيين الشوفينيين في مدن وبلدات روج آفا على شكل مجموعات قامت بمهاجمة الكرد ورفع تقارير عن الشخصيات الوطنية الكردية.
وفي ذلك الوقت، قامت هذه المجموعات الشوفينية بالتزامن مع حملة المداهمات والاعتقالات التي نفذتها قوات الحكومة بحق الشعب الكردي، بالتوجه نحو الأسواق المركزية وخصوصًا في مدينتي قامشلو والحسكة، وكسرت أقفال المحال ونهبت ما فيها، إذ بلغت قيمة المسروقات حينها ملايين الليرات، وتم توثيق ذلك عبر مقاطع مصورة رصدها بعض الأهالي، رغم عدم تطور التقنية بالمقارنة مع الوقت الحالي وانتشار الهواتف النقالة الحديثة.
ومع اندلاع الأزمة السورية واستخدام الحكومة للعنف ضد المتظاهرين، عادت هذه المجموعات إلى الواجهة من جديد، إذ شكلت حكومة دمشق ميليشيات عام 2012 في مدينة حمص، بعد اشتداد المعارك مع المجموعات المسلحة، ومن هناك بدأت الحكومة السورية نشر هيكلية هذه المجموعة لاحقًا في مختلف أنحاء سوريا.
وتشكلت هذه الميليشيا في البداية تحت اسم “اللجان الشعبية” وتكونت أساسًا من العنصريين والشوفينيين والمنضمين إلى حزب البعث الذي يحكم سوريا منذ عام 1963، والذين كانوا سابقًا يتولون رفع التقارير عن تحركات المواطنين وحديثهم للأفرع الأمنية لدى الحكومة.
وشيئًا فشيئًا بدأت هذه المليشيات تأخذ طابعًا آخر، إذ أقدمت فروع الأمن في حكومة دمشق على تشكيل حواجز خاصة لهؤلاء في المدن السورية، حيث كانوا يقومون بترهيب الأهالي لمنعهم من الخروج في تظاهرات ضد الحكومة، وخطف الأغنياء وطلب فدية من أهلهم لإطلاق سراحهم، وكانوا يتقاسمون ما يتم نهبه وسلبه من الأهالي مع الجهة التي يتبعون لها كفروع الأمن.
‘دعم مادي واعتراف رسمي‘
وتحوّلت ميليشيا الدفاع الوطني عام 2013 إلى قوات شبه رسمية، بعد أن منحتها حكومة دمشق الدعم المادي والاعتراف، لتصبح لتلك الميليشيات مبان إدارية تشغلها قياداتها، ومراكز تدريب، وختم رسمي، وبزّات موحّدة، وشعار وعلم، ورواتب شهرية.
ولم يقتصر الدفاع الوطني على البعثيين والشوفينيين فقط بعد بدء الأزمة السورية، ففي شهر آذار عام 2012، وشهر نيسان عام 2013، أصدر بشار الأسد عفوًا عن السجناء، وشمل العفو مرتكبي الجرائم الجنائية والجنح، هؤلاء تم تجهيزهم من قبل الأفرع الأمنية، قبل أن يُطلق سراحهم، ووقّعوا على تعهدات بالالتحاق بصوف الدفاع الوطني مقابل إطلاق سراحهم، وكل من وقّع على التعهد تم إطلاق سراحه تحت اسم العفو، وكان من بينهم المدعو “عبد القادر حمو” الذي عُيّن فيما بعد مسؤولًا عن الدفاع الوطني في الجزيرة.
وحصل أعضاء هذه الميليشيا على الأسلحة والرواتب والتوجيهات من قيادات الأفرع الأمنية والحزبية لدى حكومة دمشق، وعلى اعتبار أنهم كانوا من المنتمين إلى حزب البعث ومعروفون بشوفينيتهم وعنصريتهم، وموالاتهم للحكومة، منحتهم الحكومة كامل الصلاحيات في مناطق سيطرتهم، من حيث إقامة الحواجز واعتقال المدنيين واختطافهم وابتزازهم بغرض تمكين قوات حكومة دمشق من السيطرة.
كيف تستغل حكومة دمشق الميليشيات؟
وتستخدم حكومة دمشق ميليشيا الدفاع الوطني في ارتكاب المجازر وشن الهجمات على المواطنين والتضييق عليهم، وذلك من أجل التهرب من مسؤولية الجرائم التي تُرتكب أساسًا بتوجيه أفرعها الأمنية بحق المواطنين، فهي تستعمل هذه المجموعة كمرتزقة، وتحاول تبييض صفحتها أمام المواطنين عبر الادّعاء بأن الجرائم التي ترتكبها هذه الميليشيا لا تأتي بأوامر منها.
وعادة تستغل الدول مثل هذه الميليشيات والمرتزقة لتمرير أجنداتها من خلال شركات دولية، كشركة “بلاك ووتر” الأمريكية التي ارتكبت مجازر في العراق ولم تعترف بها الدولة، وأيضًا شركة فاغنر الروسية التي تنشط في الوطن العربي انطلاقًا من سوريا منذ 2014، وأيضًا شركة سادات، التي تشكلت في تركيا من أجل التغطية على الجرائم التي يرتكبها نظام أردوغان بحق الشعب في تركيا والمناطق التي يتدخل فيها من سوريا وليبيا وصولًا إلى قره باغ، وذلك للتهرب من المسؤولية أمام القانون.
ويقول موقع غلوبال سيكيورتي إن “هدف قوات النظام من تشكيل ميليشيات الدفاع الوطني هو إعفاء القوات الحكومية النظامية من مسؤوليتها عن الأعمال العدوانية والجرائم التي ترتكبها”.
‘مجازر دموية’
وارتكبت ميليشيات الدفاع الوطني مجازر دموية في مناطق سورية مختلفة، وتسببت بتهجير عشرات الآلاف من السكان، ومن أبرز الجرائم التي ارتكبتها هذه الميليشيات:
– مجزرة العنز في مدينة حمص في شباط 2012، حيث قامت بقتل 50 مدنيًّا، وعلى جثثهم آثار تعذيب بعد خطفهم على أسس طائفية، وفي الشهر نفسه ارتكب “الدفاع الوطني” مجزرة في قرية جوبر بمدينة حمص، حيث قتل أكثر من 150 مدنيًّا، بعضهم في سن الخامسة عشر.
– في شهر آذار من عام 2012 قتلت في كرم الزيتون بمدينة حمص ما يقارب 40 مدنيًّا، بينهم أطفال ونساء وحرق آخرين.
– في شهر أيار قامت وبتغطية من قوات “العميد هواش محمد” قائد غرفة العمليات في حمص، باقتحام جنوب قرية تلدو، حيث استمرت العملية أكثر من ثلاث ساعات تم خلالها قتل 106 مدنيين، بينهم 50 طفلًا وعدد من النساء، وقُتل بعضهم ذبحًا بالسكاكين.
– في حزيران عام 2012 اقتحمت قرية القبير في ريف حماة، وأطلقت النار عشوائيًّا على أهلها، ثم اقتادت عددًا من الرجال إلى خارج المنازل وذبحتهم بالسكاكين، كما أحرقت نحو عشرة جثث، وتم توثيق مقتل 78 مدنيًّا في هذه المجزرة، علمًا أن الميليشيات قد أخذت معها نحو 37 جثة، ولم يتم التعرف على العديد من الجثث التي تم حرقها، ولا يزال 15 شخصًا من أهل القرية في عداد المفقودين، وعُرف من بين القتلى 22 طفلًا، وعلى إثر هذه المجزرة الشنيعة قدم القاضي طلال حوشان رئيس النيابة العامة في محردة استقالته، بعد إجباره على تحميل المعارضة مسؤولية هذه الجريمة.
– في عام 2013 قامت قوات حكومة دمشق مدعومة بميليشيا الدفاع الوطني باقتحام بلدة الصنمين، وقتل نحو 60 مدنيًّا فيها، حيث تم ذبح بعضهم بالسكاكين.
هذا جزء من الجرائم التي ارتكبتها ميليشيا الدفاع الوطني، بالإضافة إلى قيامها بسلب ونهب وتعفيش المنازل في المناطق التي كانت قوات الحكومة تسيطر عليها بدعم روسي إيراني.
‘خلافات النفوذ’
ومنذ بداية الأزمة السورية، ظهرت خلافات عديدة بين ميليشيا الدفاع الوطني التي تتلقى الدعم المالي والعتاد والذخيرة من قوات الحكومة، ولاحقًا من إيران والفيلق الخامس المدعوم من روسيا، حول مناطق النفوذ وقيادة الدفاع الوطني، وظهر ذلك إلى العلن في السويداء.
وظهرت خلافات كبيرة بين ميليشيات الدفاع الوطني التي اقتربت كثيرًا من إيران في الفترة الأخيرة، والتي كانت تنتشر في معظم مناطق محافظة السويداء منذ عام 2013، حيث تساند قوات حكومة دمشق وتحمي القرى الحدودية من جهة، وقوات الفيلق الخامس التي تدعمها روسيا بشكل مباشر.
وفي حمص وأماكن أخرى اشتبكت الميليشيات مع بعضها البعض، وذلك في خلاف على القيادات التي كانت تعيّن من طرف روسيا أو إيران، وأيضًا على التعفيش الذي كانت تقوم به الميليشيات في المناطق التي تسيطر عليها.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن لهذه المجموعات مراكز متعددة في المنطقة الواحدة، وكل مركز يتبع فرعًا معينًا من الأفرع الأمنية كالمخابرات الجوية، والأمن العسكري والأمن السياسي، ويطلق عليها تسميات مثل “أنصار الأمن العسكري وصقور الأمن العسكري، وغير ذلك” وبالتالي كانت تشتبك هذه المجموعات فيما بينها، عند حصول خلافات بين ضباط الأفرع الأمنية حول تقاسم المسروقات.
‘في شمال وشرق سوريا’
وفي شمال وشرق سوريا، توجد ميليشيات الدفاع الوطني في عدة مقرات بمدينة الحسكة وقامشلو، ففي الحسكة توجد مقراتها في المربع الأمني ومناطق سيطرة قوات حكومة دمشق، أما في قامشلو فتوجد عدة مراكز لها في “حارة طي” وقرى “حامو، والطواريج، وخربة عمو، والتخت، والدمخية، ورحية السودة”.
وفي عام 2013 عُرفت ميليشيا الدفاع الوطني في إقليم الجزيرة بـ “المقنعين”، وقد سمّيت كذلك لأن عناصرها كانوا يرتدون أقنعة كي لا يتعرف إليهم الأهالي، وكانوا ينشطون في أحياء غويران، والعزيزية، والغزل في مدينة الحسكة، وحيي حلكو وحارة طي في مدينة قامشلو.
وهؤلاء المقنعين كانوا معروفين من قبل أهالي قامشلو والحسكة باسم المرتزقة، لأنهم كانوا يختطفون الأهالي ويطالبون ذويهم بفدية مالية لقاء إطلاق سراحهم، وكانوا يتقاسمون هذه الأموال مع الضباط في فروع الأمن المختلفة لدى قوات الحكومة.
‘الالتحاق بداعش’
وفي صيف عام 2015، عندما هاجم مرتزقة داعش مدينة الحسكة، كان العقل الرئيس لـ “الدفاع الوطني الذين كان عددهم يتجاوز الـ 600 شخص”، موجودًا في حي النشوة خلف مشفى الأطفال، وهؤلاء عندما سمعوا بقدوم داعش، أعلنوا مباشرة مبايعة داعش، أما القسم الآخر والذي كان موجودًا في حي العزيزية شرق مدينة الحسكة، فقد شارك في الهجوم على المدينة، بالأسلحة والمعدات والآليات التي كانت المؤسسات الأمنية لحكومة دمشق قد سلمتهم إياها.
‘وظيفة الدفاع الوطني بعد هزيمة داعش’
إن مرتزقة الدفاع الوطني يحصلون على رواتب شهرية من قوات الحكومة السورية، وبدأت هذه المبالغ بـ 40 ألفًا حتى وصلت إلى 80 ألفًا، ويتلقون أوامر مباشرة من أفرع الأمن لدى الحكومة السورية بضرب الأمن والاستقرار في المنطقة، وذلك عبر تفجير قنابل بين الحين والآخر قرب المدارس وفي الأسواق.
وبأوامر من قوات الحكومة، وقفت هذه المجموعات المرتزقة خلف العديد من الاشتباكات التي اندلعت في مدينتي قامشلو والحسكة، عبر شن الهجمات على حواجز قوات الأسايش، بهدف تأليب أسر هؤلاء المرتزقة والذين غالبيتهم من العرب ضد الكرد.
وسبق لقوات الأسايش أن اعتقلت العديد من الذين يفجرون القنابل، وتبيّن أنهم من مرتزقة الدفاع الوطني، حيث أمرتهم قوات الحكومة برمي القنابل لضرب الاستقرار في المنطقة.
وعادة ما يستقل هؤلاء المرتزقة دراجات نارية، وهم ملثمون ويتحركون بشكل فردي أو في مجموعة تتألف من 2- 5 أشخاص، يتولون مهام المراقبة والرصد والهجوم وتأمين طرق الهروب.
‘هجمات منظمة بالتزامن مع الهجمات التركية’
وبالتزامن مع تكثيف جيش الاحتلال التركي لهجماته على ناحية عين عيسى وفي منطقة تل تمر وزركان، والحديث عن زيارة سرية قام بها رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان إلى دمشق ولقائه المسؤولين في الأمن السوري، بدأت قوات الحكومة السورية بخلق التوترات في مدينتي قامشلو والحسكة.
وشهدت مدينة قامشلو في الـ 25 من كانون الأول المنصرم، توترًا أمنيًّا، بعد اعتقال قوات الحكومة السورية مواطنين بحجة أنهم موظفون لدى الإدارة الذاتية، وآخرين بحجة أنهم موظفون لديها ولكنهم مطلوبون للخدمة الإلزامية، ولكن حليفتها روسيا تدخلت لحل التوتر.
وعلى ما يبدو أنه تم إعداد مخطط جديد في غرف أمن الحكومة السورية، باستخدام اسم ميليشيا الدفاع الوطني بدلًا من اسم قوات الحكومة السورية.
وفي هذا السياق، ألقى أحد عناصر ميليشيا الدفاع الوطني في الثاني من كانون الثاني المنصرم، قنبلة يدوية في سوق مدينة الحسكة، أدت إلى استشهاد مدنيين اثنين أحدهما طفل، وإصابة أكثر من 20 آخرين.
وفي الثالث من كانون الثاني المنصرم، اعتقلت قوات الحكومة عنصرًا من قوى الأسايش ومواطنًا آخر.
وفي 7 كانون الثاني أصيب شابّ في مدينة قامشلو جراء إطلاق ميليشيا الدفاع الوطني الرصاص عليه جنوب حي حلكو. وبعدها تكررت عمليات سرقة منازل المواطنين في حي حلكو على مقربة من مقرات الدفاع الوطني.
وفي 23 كانون الثاني المنصرم، أطلقت ميليشيا الدفاع الوطني النار على إحدى حواجز الأسايش في حي حكلو جنوب مدينة قامشلو، وردّت عليها قوى الأمن الداخلي، ليحصل تبادل إطلاق نار بين الطرفين.
ويرى مراقبون أن هدف هذه الهجمات العشوائية هو ضرب استقرار وأمن المنطقة، ليستغله إعلام البعث والمرتزقة في تشويه حقيقة الاستقرار الذي تشهده المنطقة مقارنة مع المناطق المحتلة والمناطق التي يسيطر عليها النظام البعثي.
–