تحت عنوان “سوريون يواجهون الفقر والعوز… بالانتحار” كتبت الصحيفة مقالتها وبحثها مستندة في ذلك على عدة مصادر وابحاث ولقاءات ميدانية.
ترتفع معدلات الانتحار بصورة ملحوظة في سوريا، إذ سجلت 84 حالة في مناطق الحكومة خلال النصف الأول من العام الحالي، و43 حالة في مناطق شمال غربي البلاد عدا مناطق الأكراد شمال شرق سوريا ، قياساً بـ206 حالات انتحار عام 2023، و175 حالة في 2022، وأقل بقليل في 2021.
قد تختلف هذه الأرقام صعوداً أو هبوطاً ولكن بشكل بسيط، بسبب تباين عمل مراكز الإحصاء وتشعبها وانعدام التنسيق في ما بينها، من دون عدم تمكنها من التبيان الميداني، نظراً لتوزع قوى السيطرة وفقاً للأطراف المتصارعة على الأرض، إذ تحاول بعض الجمعيات والمنظمات في الخارج الحصول على معلومات متطابقة على امتداد الخريطة لدمجها في إطار إحصاء نهائي مع خلاصة كل عام.
من يتولى الإحصاء المباشر؟
في السياق الإحصائي، تبرز الهيئة العامة للطب الشرعي كمؤسسة رسمية في مناطق الحكومة تعنى بشؤون مشابهة وتتمكن من تمرير أرقامها بصورة مؤسساتية معتمدة في برامج عربية وعالمية ما بين الجامعة العربية والأمم المتحدة بمكاتبهما المتخصصة.
أيضاً تعمل منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” في نفس إطار التوثيق، وهي منظمة حقوقية غير حكومية ولا تحظى باعتراف من دمشق، في حين ينشط فريق “منسقو الاستجابة” في تقديم إحصاءاته أيضاً، وهو الذي ينشط في مناطق سيطرة “النصرة – هيئة تحرير الشام” والفصائل المعارضة شمال غربي سوريا.
تعد هذه الجهات الثلاث، الأكثر نشاطاً في مضمار توثيق ضحايا الانتحار، فيما تستند إلى مجموع إحصاءاتهم مراكز الأبحاث الخارجية على قاعدة أن كل جماعة تحصي في مناطقها، ليكون الرقم النهائي ليس إلا حصيلة تعداد لسوريين منتحرين فرقتهم الحرب جغرافياً وسياسياً وميدانياً وجمعهم الموت في أسباب واحدة.
عام الضحايا الأكبر
تعود عوامل الانتحار لجملة أسباب موضعية محمولة في غالبها على الفقر والحاجة، وهو ما لم يحدث في أعوام الحرب المباشرة. إذ يقاسي السوريون اليوم واحداً من أسوأ أعوامهم التي باتوا فيها عاجزين عن توفير الخبز والغذاء والطبابة والاستشفاء والدراسة وغيرها.
انهارت العملة السورية بنحو 300 ضعف أمام الدولار حصل ذلك بعد 2020 تباعاً، الآن هو في ذروته تماماً، بعد أن صار متوسط المرتب الحكومي واحداً من أقل الأجور حول العالم بمعدل 20 دولاراً، والـ20 تلك هي ثمن غالون بنزين أو معاينة طبيب مع بعض الأدوية، وبمقتضى الأحوال فإن العائلة تحتاج إلى 30 ضعفها لتكفي مصروفها في ظل الغلاء الفاحش.
إذاً، الفقر هو الدافع الأول للانتحار، وهو المعطى الأول أمام الباحثين الذين لن يحتاجوا كثيراً من البحث والعناء والمشقة للاستنتاج، الأمر بسيط للغاية، يمكن حله بالحديث مع أي سوري وبدوره سينقل ما سيقوله الجميع، الغالبية العظمى في الأقل.
11 وردة على قبرها إحدى قصص الانتحار في مناطق سيطرة القوات التركية وما تسمى بالمعارضة السورية الموالية لها التي تعاني من القسوة المجتمعية غير المرتبطة بالحرب.
رغم أن معظم قصص الانتحار تنطلق من الفقر والعوز والحاجة والظروف الاقتصادية الطاحنة، ولكن لا شك أن هناك دائماً أسباباً أخرى، كالطفلة كاترين جعفر ذات الـ11 سنة، التي انتحرت مطلع هذا العام أيضاً عبر تناولها “حبة غاز”، وقد يبدو غريباً للغاية أن تنتحر طفلة بهذا العمر وبهذه الطريقة.
“حبة الغاز” هو الاسم الشائع لمركب “فوسفيد النتروجين” الذي يفترض أن يباع في الصيدليات الزراعية بوصفه مبيداً حشرياً، إلا أنه بات يكثر تداوله وبيعه في مناطق شمال غربي سوريا، ويباع في الصيدليات العادية رغم التحذيرات منه.
الفتاة التي تتحدر من بلدة تفتناز شمال سوريا، قررت قتل نفسها خشية توبيخ والديها إثر حصولها على علامات متدنية في فصلها الدراسي تاركة خلفة رسالة مكتوبة جاء فيها “إلى أمي الغالية، كثيراً ما رغبت في أن أكون من المتفوقين، وشكراً لك على جهودك وأدعيتك، لكنني لا أعلم إذا كانت من قلبك، أمي أرجوك سامحيني على الذي صدر مني. أمي أحبك جداً جداً، وأتمنى أن تزوري قبري وتدعي لي”.
وكتبت لوالدها تقول، “إلى أبي العزيز، أحبك يا أبي وشكراً لك على كل ما قدمته لي من حنية ودفء ولم تحرمني من شيء، لكنني حرمتك من فرحتك، وأتمنى أن تكون صابراً لأن قهر الرجال سيئ. أبي الغالي أحبك جداً جداً”.
ضغوط أخرى
تفاعل السوريون آنذاك كثيراً على مصير هذه الطفلة، ولكن أي خشية تلك التي تدفع طفلاً ليقتل نفسه، وانطلاقاً من هذا الجانب فإن عمليات انتحار أخرى وقعت تحت ضغوط مجتمعية وإنسانية ونفسية غير اقتصادية لأشخاص ليسوا في سن المسؤولية أو أنهم في تلك السن ولكن ثمة من يدبر أمور معيشتهم من الأبوين بشكل مقبول في الأقل.
يقاسي السوريون اليوم واحداً من أسوأ أعوامهم التي باتوا فيها عاجزين عن توفير الخبز والغذاء والطبابة والاستشفاء والدراسة وغيرها.
مقابل كل ذلك الموت، سوريون كثر أبدوا تمسكاً هائلاً باستمرار أسباب الحياة، فشلوا في بلدهم فراحوا يبحثون عن أنفسهم خارجه، لم يفشلوا لأنهم غير مقتدرين أو جديرين، بل لأن بلدهم قتلته البطالة والتضخم وغياب أفق المستقبل.