في الوقت الذي كانت أنقرة تتحدث عن ذرائع تتعلق بمخاوف أمنية، كانت الخطة متكاملة حول احتلال بعيد الأمد، وأشرف على تنفيذها رجل الاستخبارات التركيّة “أبو الفرقان”.
اجتماع قرق خان
في 8/3/2018 عقد اجتماعٍ قرب مدينة قرق خان في لواء اسكندرون/ هاتاي، ضمّ قادة عسكريين أتراك ومتزعمين للميليشيات المسلحة إضافة إلى مسؤولين من حزب العدالة والتنمية وإداريين مدنيين تابعين لولاية كلس وقضاء قرق خان وريحانية ومسؤول بالاستخبارات التركيّة عُرف باسم “أبو الفرقان”.
تضمن الاجتماع التأكيدات الأخيرة على خطة الاحتلال وتزامن عقده مع السيطرة على مراكز النواحي، واستمر ثلاث ساعات وجرت مناقشة تطورات الوضع الميدانيّ في عفرين وحالة الجبهات، وركّزت المداخلات على مرحلة ما بعد الاحتلال وكيفية إدارة عفرين وتوزيع المدن والقرى والبلدات.
كانت أولى المسائل المطروحة حول سبل لكسب ثقة المدنيين في عفرين الذين نزحوا بفعل العمليات العسكريّة، والعمل على إعادة بعضهم إلى قراهم لكسب الرأي العالم العالميّ وإضفاء الشرعيّة على العملية. وتم الاتفاق على وقف العمليات العسكريّة في المحور الشمالي الشرقي لمدينة عفرين (محور قيبار وقره تبه) ومواصلة عملية عزل المدينة عن ناحية شيراوا ومنطقة الشهباء ومناطق سيطرة الحكومة السورية؛ وفي الوقت ذاته التقدم من الجبهة الجنوبيّة الغربية (غزاوية وباسوطة) والالتقاء مع القوات المهاجمة من محور شيراوا؛ إضافة إلى فتح ممرات للمدنيين من طرف طريق جنديرس وراجو. وفي الوقت ذاته استهداف المواقع المحصّنة للقوات المدافعة حول المدينة وخلق حالة من الهلع والخوف داخل المدينة عبر الاستهداف المتكرر لتخوم المدينة لدفع المدنيين إلى العودة للمناطق المسيطرة عليها من قبل القوات المهاجمة.
تخلل الاجتماع العديد من الاعتراضات على المقترحات الأخيرة المقدمة من قبل الإداريين في الحكومة التركيّة من قبل قيادة غرفة عمليات غصن الزيتون بسبب مخاوف من تسلل خلايا نائمة ومؤيدين لوحدات حماية الشعب إلى القرى المحتلة. وتم تبديد المخاوف بتطبيق خطة جرى تحضيرها مسبقاً تقضي بتوكيل عملاء وأشخاص عملوا في تركيا في وقت سابق وجرى تجنيدهم هناك وعادوا قبل بدء العملية، ليقوموا بتنظيم قوائم وجداول بأسماء المواطنين في قرى عفرين ضمن خانات من المؤيدين والمعارضين والحياديين تجاه “الإدارة الذاتية” ووظيفة كلّ شخص بحسب المصدر. الذي أضاف أنّه سيتم التغاضي عن محاسبة كلّ عائلة مؤيدة ومنتسبة لوحدات حماية الشعب مؤقتاً لحين الانتهاء من العملية العسكريّة.
كما جرى النقاش حول الاستفادة من دور ووظيفة المعارضين للإدارة الذاتيّة والاستعانة بهم لملء الفراغ الإداريّ بالمنطقة بعد الاحتلال، وبخاصة بعض قيادات المجلس الوطني الكرديّ الموثوق بهم من قبل تركيا. كما تمت مناقشة وضع الأحزاب الكرديّة التي توافقت مع الإدارة الذاتيّة، وأنّ جهاز المخابرات عمل خلال عام 2017 على إحداث شرخ في هيكلية تلك الأحزاب، وستكلف مهمة تلك الأحزاب إلى بعض القيادات التي وقفت ضد “الإدارة الذاتية” وستحاسب القيادات “المؤيدة لها لاحقاً.
نوقش الملف العسكريّ والأمنيّ سيكون حصراً بيد الدولة التركيّة بسبب حساسية الوضع والتركيب السكانيّ والاثني في المنطقة. إضافة لمناقشة المسائل الخدميّة والإداريّة وستكون من مهمة رئاسة الولايات والأقضية التركيّة بحسب قربها من تلك المناطق.
وعن موعد الانتهاء من العملية العسكريّة أكد أبو الفرقان بأنّ باريس وواشنطن وبعض دول الاتحاد الأوربيّ تمارس ضغوطاً لوقف العملية العسكريّة، وإبقاء المدينة على وضعها السابق، والتباحث حول الملفات العالقة، وتم تأكيد تحييد معارضة إيران للعملية عبر الوسيط الروسيّ في الاجتماع الأخير بإعطاء ضمانات بعدم استهداف بلدتي نبل والزهراء ونشر الجنود الأتراك في تلك المنطقة؛ وممارسة الضغط لسحب القوات السورية من جبهات عفرين الجنوبيّة. وأكّد أبو الفرقان أن العملية في عفرين مستمرة على هذه الوتيرة ريثما يتم التوصل إلى إرضاء الغرب وإخراج أكبر عددٍ من الأهالي من المدينة بنهاية أبريل.
من هو أبو الفرقان؟
أبو الفرقان، هو محمد كمال، هو ضابط برتبة عقيد في الاستخبارات التركيّة وكان المسؤول العسكريّ المباشر عن إدارة ملف الميليشيات السوريّة، وكان مؤمناً بضرورة تقديم “دعم لا محدود للميليشيات المقرّبة من جماعة الإخوان المسلمين” مع “الاستثمار قدر الإمكان في الميليشيات الأخرى وتوظيفها لخدمة الهدف التركيّ” الذي يتماهى بطبيعة الحال مع أهداف الإخوان المسلمين. وهذه السياسة تطبيق حرفيّ لتوجهات القيادة التركيّة.
ترأس “أبو الفرقان” غرفة أنقرة لإدارة الملف السوريّ التي سميت أيضاً “غرفة تنسيق الدعم”، وكان ضابط الارتباط بين متزعمي الميليشيات ورئيس جهاز الاستخبارات التركيّة هاكان فيدان، وعملياً هو المسؤول عن كلِّ شاردةٍ وواردةٍ في ملف الميليشيات المسلحة، وتنتهي عنده خطوط جميع الميليشيات على اختلاف انتماءاتها وتوجهاتها. فهو الذي يوزع الدعم على هذه الميليشيات حسب قربها ودرجة تماهيها مع السياسة التركيّة، وبناءً على تقاريره التي يرفعها إلى رئيس الاستخبارات يتم تحديد متزعمي الميليشيات الموثوقين الذين يمكن الاعتماد عليهم في تنفيذ المهام.
ونالت الميليشيات ذات الانتماء التركمانيّ الحصة الأكبر من رعاية “أبي الفرقان”، ويعرف كلٌّ من “فهيم عيسى” متزعم ميليشيا “السلطان مراد” و”سيف بكر بولاد” متزعم ميليشيا “الحمزات” من المقربين منه. كما حظيت «أحرار الشام» بوضع خاص في أجندته، لدرجة أنّ البعض يقول إنّ معرفة أسرار اغتيال متزعمي “الأحرار” في 9/9/2014 والتغييرات الجذريّة التي طرأت عليها تتطلب البحث في صندوق أسرار “أبي الفرقان”.
ورغم ميله الإخوانيّ، إلا أنّه ولتحقيق أهداف مرحلية وتكتيكيّة عمل على إيجاد توازن بين الميليشيات الإخوانية والجهاديّة، واستثار الحالة الجهاديّة لخدمة الهدف الاستراتيجيّ المتمثل بتوسيع السيطرة التركيّة وإعادة إحياء الهيمنة العثمانيّة.
مرور السنوات اكتسب رجل الاستخبارات التركيّة أبو الفرقان خبرة واسعة في التعامل مع جميع الميليشيات المسلحة في سوريا، وعرف تفاصيل عن متزعمي الميليشيات وميولهم وتوجهاتهم، وراكم خبرة كبيرة في التعامل مع الحركات الإسلاميّة التي جرى على أساسها اختياره لشغل المنصب، علاوة دهائه، وعرف بشكل عام باسم “سليماني تركيا”.
لا يستقبل “أبو الفرقان” أحداً في مكتبه أو في مقر الاستخبارات، بل يجري اللقاءات في المطاعم أو الفنادق، وهو يحضر الاجتماعات الاستخباريّة مع الرئيس التركيّ دون تسمية بصفة رسميّة، هو أحد أهم الأدوات المشروع التركيّ التوسعي في سوريا وليبيا والقرن الإفريقيّ ويدير شركة صادات في ليبيا التي تورد الأسلحة إلى ليبيا.
خلفاء أبو الفرقان
مع إسناد مهمة ليبيا إلى “أبو الفرقان”، تولى مهمته في سوريا المدعو “أبو سعيد” وهو عميد في الاستخبارات التركيّة، واستمر بمهمته لمدة عام ونصف، حتى مطلع عام 2022، ليتولى المهمة بعده المدعو “أبو داوود”، وذكرت صحيفة النهار العربي في 9/1/2022، أن عزل أبو سعيد جاء بعدما الشكاوى ضد الأول بسبب انحيازه الواضح إلى “هيئة تحرير الشام” بقيادة أبي محمد الجولاني، المصنفة على قوائم الإرهاب الدوليّ. ما أسهم بهيمنة “الهيئة” على إدلب لم يعد منهجه يلبي الحاجات التركيّة، وبخاصة بعد التصعيد الروسيّ في إدلب، فيما تحاول أنقرة التهدئة.
وإذا ما علمنا أنّ أبو داوود كان ضمن فريق “أبو الفرقان”، منذ عام 2012، يمكن فهم أنّ أنقرة أرادت استعادة المنهج السابق في سوريا في إدارة ملف الميليشيات وعدم الانحياز إلى “الجهاديين وتقوية الإخوان والتركمان، وعدم التصعيد مع موسكو.
كان يعمل أبو داود ضمن فريق “أبي الفرقان” منذ عام 2012، وذلك في إشارة على ما يبدو الى أنه سيتّبع النهج نفسه في إدارة ملف الميليشيات، لا سيما لجهة عدم الانحياز إلى الجهاديين والعمل على تقوية الإخوان والتركمان.
من المؤكد أنّ تعديلاً طرأ على خطة أنقرة مع انطلاق المسار التصالحيّ، ولكن ذلك لا يعني تخلياً عن الخطة الأساسيّة، فالمسألة في جوهرها تتعلق بأولويات الحكومة التركيّة، والامتحان الانتخابيّ يتصدرها.
–