يثير الحديث عن إنشاء محكمة دولية لمحاسبة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام رعب المسؤولين الأتراك في أنقرة، وذلك لما يمكن أن تكشف عنه علاقات مخفية بين التنظيم وتركيا، بحسب ما يشير مراقبون للشؤون التركية.
ويوفّر إنشاء محكمة دولية لمحاسبة تنظيم الدولة الإسلامية على الفظائع التي ارتكبها، رداً جماعياً قوياً على جرائم اقترفها ضد الإنسانية جمعاء، لكن إيجاد هذه الأداة الضرورية لتحقيق عدالة ملحة دونه تحديات كثيرة، بحسب خبراء.
ودعت قوات سوريا الديمقراطية، بعد إعلان قضائها على “خلافة” التنظيم، المجتمع الدولي إلى إنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة الآلاف من مقاتلي التنظيم الموقوفين لديها في شمال شرق سوريا، من دون تحديد أطرها.
ويقول مدير برنامج مكافحة الإرهاب في منظمة هيومن رايتس ووتش نديم حوري لوكالة فرانس برس “إنها دعوة للمساعدة بعدما تركهم المجتمع الدولي” لإدارة مرحلة ما بعد التنظيم و”هم يذكّرونه بأنها مسؤولية مشتركة”.
ورغم دعوات الإدارة الذاتية الكردية المتكررة للدول الغربية من أجل استعادة مواطنيها الذين التحقوا بالتنظيم وأفراد عائلاتهم، لمحاكمتهم لديها، إلا أن غالبية حكوماتهم ترفض القيام بذلك حتى الآن.
ومن شأن إنشاء محكمة دولية، مع قضاة متخصصين، وبناء تصور شامل للأحداث في العراق وسوريا وحتى خارجهما، أن يقدّم أجوبة على أسئلة مؤلمة على غرار “من، لماذا وكيف؟”، والمضي قدماً نحو مرحلة المصالحة، وفق ما يشرح خبراء.
وكانت أراضي “الخلافة”، التي أعلنها تنظيم الدولة الإسلامية في العام 2014 بعد سيطرته على مناطق شاسعة في سوريا والعراق وتعادل مساحة بريطانيا، منطقة يتعذر على الصحافيين والمحققين الوصول إليها.
ويقول المسؤول عن البرنامج الدولي للعدالة الجنائية والعدالة الانتقالية في معهد الدراسات العليا في باريس جويل هوبريشت إن الجرائم التي اتُهم التنظيم بارتكابها “ألحقت أذى بالإنسانية بأسرها”.
وتضم المقابر الجماعية، حيث كان الجهاديون يلقون ضحايا الإعدامات التي نفذوها، نحو 12 ألف جثة في العراق وخمسة آلاف في شمال سوريا، وفق تقديرات لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة.
ويُشتبه بارتكاب التنظيم كذلك عمليات اغتصاب وتنفيذه هجمات دامية في قارات عدّة، كما تحقّق الأمم المتحدة في ارتكابه إبادة جماعية ضد الأقلية الأيزيدية في العراق، وهي تُصنف كأخطر جريمة في القانون الدولي.
ويسوّغ هذا الطابع “الدولي” للجرائم التي يقف خلفها التنظيم، وفق هوبريشت، محاكمة كبار المسؤولين على غرار محكمة نورمبرغ التي حاكمت قادة الحزب النازي الألماني المسؤولين عن جرائم الحرب خلال الحرب العالمية الثانية.
ويرى هوبريشت أنها “ستكون استجابة قضائية أقوى بكثير.. وشاملة” بدلاً من ملاحقات مجتزأة في كل بلد على حدة.
ويقول الباحث في جامعة هارفرد الأميركية أندراس ريدلماير إنه في ظل “نقص الإمكانيات والحيادية” لدى الأجهزة القضائية في سوريا أو في العراق، يمكن للمحكمة الدولية أن “تشكّل بديلاً جيداً”. ويذكّر كيف “حرمت الهجمات التي شنها التنظيم على المعالم الأثرية، الإنسانية من ذاكرتها”.
وتسمح محاكمة مماثلة بردّ الاعتبار للضحايا، وفق حوري الذي يشرح أنه خلال مئات المحاكمات لمقاتلي التنظيم في العراق، وفي جلسات لم يدم بعضها أكثر من دقائق، “لم يكن صوتها مسموعاً أو بإمكانها طرح أسئلة على المتهمين كالسؤال عن مكان أقاربهم” على سبيل المثال.
ولم ينبثق عن هذه المحاكمات، معرفة أي معلومات حول نقاط هامة على غرار “من أعطى الأوامر”، وفق حوري.
ويحذر حوري من المخاطر التي قد تترتب على أي “عدالة انتقائية” في سوريا.
ويقول “يبدو أن بعض الدول وقوات سوريا الديموقراطية ينظرون إلى الأمر (محكمة دولية خاصة) على أنه استجابة لحل مشكلة الجهاديين الأجانب في سوريا، أي ليس بوصفه مساراً تحفزه الرغبة في محاكمة أخطر الجرائم، بغض النظر عن مرتكبيها”.
وأسفر النزاع المستمر في سوريا منذ العام 2011 عن مقتل أكثر من 370 ألف شخص، لم يقتل معظمهم من قبل تنظيم الدولة الإسلامية. ووجهت منظمات حقوقية ودولية الاتهام إلى جميع أطراف النزاع بالضلوع في ارتكاب الانتهاكات، أي إلى النظام وحلفائه والمجموعات الجهادية والفصائل المعارضة والتحالف الدولي بقيادة أميركية.
ويسأل حوري “هل سنقول للضحايا إننا لن نحاكم سوى تنظيم الدولة الإسلامية؟” محذراً أن من شأن ذلك أن “يخلق نزاعاً جديداً”.
ويتحدث الخبراء عن عقبات، يصعب تذليلها وتعيق إنشاء محكمة دولية. إذ تعارض دول عدّة في مجلس الأمن الدولي أن تحقق المحكمة الجنائية الدولية، وهي محكمة دائمة تتعلق بجرائم الحرب، في العراق وسوريا.
كما يواجه إنشاء محكمة خاصة الاعتراض ذاته، إذ رفض الأميركيون الداعمون لقوات سوريا الديمقراطية، هذا الخيار الاثنين وتحفظت فرنسا عليه.
ويبدو إنشاء محكمة دولية في شمال شرق سوريا غير واقعي، إذ لا تحظى الإدارة الكردية باعتراف دولي. كما أن حماية الشهود في بلد تمزّقه الحرب، وحيث يقتل سكان المدينة ذاتها بعضهم البعض، يشكّل تحدياً معقداً.
ويرى المحامي كلايف ستافورد سميث من منظمة “ريبريف” غير الحكومية التي تُعني “بتحقيق العدالة”، أنه يمكن للمجتمع الدولي تقديم الدعم اللوجستي والقانوني للأكراد من أجل إنشاء محاكم محلية تحترم المعايير الدولية.
ولن تحاكم المحكمة الدولية في حال تأسيسها إلا كبار المسؤولين، وستكون مكملة للقضاء المحلي.
ويتطلب أي حل وقتاً ليس بقصير، إذ يجب وضع الإجراءات القضائية، وتدريب القضاة والمحامين حول هذه المسائل المعقدة، عدا عن مسألة من سيخضع للمحاكمة، لكون الكثير من قادة التنظيم قد قتلوا أو فروا.
ويوضح هوبريشت أنه حتى لو أبصرت محكمة مماثلة النور، سيتطلب الأمر “سنوات عدّة” قبل أن نشهد الإدانات.